بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
وبعد
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته
أخي الزائر / أختي الزائرة مرحبا بكم في منتديات بحر الأسامي . المرجوا من حضراتكم الكرام التعريف بنفسك والدخول معنا إلى المنتديات ، وإن لم تكن مسجل بعد نتشرف بدعوتك لتسجيل ونرحب بك
---> الــــمــديــر الـــعـــام <---
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
وبعد
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته
أخي الزائر / أختي الزائرة مرحبا بكم في منتديات بحر الأسامي . المرجوا من حضراتكم الكرام التعريف بنفسك والدخول معنا إلى المنتديات ، وإن لم تكن مسجل بعد نتشرف بدعوتك لتسجيل ونرحب بك
---> الــــمــديــر الـــعـــام <---
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.



 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول
طلب مشرفون للمنتديات وطبعا هناك شروط يجب الالتزام بها فاذا كنت ترى أنك تستطيع القيام بهذه المهمة يمكنك الاتصال بالمدير العام للمنتديات ***** تميز وتألق وانضم الى فريق المشرفون وذلك بالمساهمة في المنتديات بمواضيع وردود

 

 رماد الأجيال ... و النار الخالدة

اذهب الى الأسفل 
2 مشترك
كاتب الموضوعرسالة
اشراقات

اشراقات



رماد الأجيال ... و النار الخالدة Empty
مُساهمةموضوع: رماد الأجيال ... و النار الخالدة   رماد الأجيال ... و النار الخالدة I_icon_minitimeالأربعاء 6 مايو 2009 - 3:46

رماد الأجيال و النار الخالدة



1




(في خريف116 قيل الميلاد)


سكن الليل و رقدت الحياة في مدينة الشمس* و أطفئت السرج في المنازل المنتثرة حول الهياكل العظيمة القائمة بين أشجار الزيتون و الغار، و طلع القمر فانسكبت أشعته على بياض الأعمدة الرخاميّة المنتصبة كالجبابرة تخفر في هدوء الليل مذابح الآلهة ، وتنظر تيهاً و إعجاباً نحو بروج لبنان الجالسة في الوعر على جبهات الروابي البعيدة .

في تلك الساعة المملوءة بسحر الهدوء الموحدة بين أرواح النيام و أحلام اللانهاية ، جاء ناثان ابن الكاهن حيرام ودخل هيكل عشتروت* حاملاً مشعلاً ، و بيد مرتجفة أنار المسارج و أوقد المباخر فتصاعدت روائح المر و اللبان ، ووشحت تمثال المعبودة بنقاب لطيف يشابه برقع الأماني المحيط بالقلب البشري ، ثم ركع أمام المذبح المصفّح برقوق العاج و الذهب و رفع يديه و نظر نحو العلاء و من عينيه الدموع تستدر الدموع ، و بصوت تخفضه الغصّات الأليمة تقطعه اللوعة القاسية صرخ قائلاً :

" رحماك يا عشتروت العظيمة - رحماك يا ربّة الحبّ و الجمال ، ترأفي بي و أزيلي يد الموت عن حبيبتي التي اختارتها نفسي بمشيئتك...لقد نبت أعاصير الأطباء و مساحيقهم ، و باطلاً ضاعت تعازيم الكهّان و العرافيـن ، و لم يبق لي غير اسـمك المقدس عونـاً و مسـاعداً ، فاستجيبي تضرّعاتي ، و انظري انسحاق قلبي و توجّع عواطفي ، و أبقي شطر نفسي حيّاً بجانبي ، لنفرح بأسرار محبّتك و نسعد بجمال الشبيبة المعلنة خفايا مجدك . من هذه الأعماق أصرخ إليك يا عشتروت المقدّسة . من وراء ظلمة هذا الليل استجير بحنانك .فاسمعيني أنا عبدك ناثان ابن الكاهن حيرام الذي وقف عمره على خدمة مذبحك - قد أحببت صبيّة من بين الصبايا و اتخذتها رفيقة فحسدتنا عرائس الجان و نفثن في جسدها اللطيف لهاث علّة غريبة ، ثم بعثن رسول المنايا ليقودها إلى مغاورهنّ السحريّة ، و هو هو الآن رابض بقرب مضجعها ، يزمجر كالنمر الجائع ، مخيماً عليها بأجنحته السوداء ، مادّاً مقابضه الخشنة ليغتالها من بين ضلوعي . من أجل ذلك جئت إليك متذلّلاً ، فارحميني و أبقيها زهرة لم تفرح بعد بجمال صيف الحياة ، و طائراً لم يكمل تغريدة مسرّته لمجيء فجر الشبيبة . أنقذيها من بين أظفار الموت فنبتهج بأغاني مدائحك ، مقدّمين المحروقات لمجد اسمك ، ناحرين الضحايا على مذبحك ، مالئين بالخمر القديمة و الزيت المطيّب آنية خزائنك ، فارشين بالورود و الياسمين رواق هيكلك ، محرقين البخور و العود الذكيّ الرائحة أمام تمثالك . خلّصينا يا ربّة المعجزات و دعي المحبّة تغلب الموت ، فأنت ربّة الموت و المحبّة "
و سكت دقيقة كانت فيها لوعته تسيل دموعاً و تتصاعد تنهّداً . ثم عاد فقال : "أواه! لقد تضعضعت أحلامي يا عشتروت المقدّسة و ذابت حشاشتي و مات قلبي في داخلي و التهبت الدموع في عيني ، فأحييني بالرأفة و أبقي لي حبيبـــتي !" . و دخل إذ ذاك عبد من عبيده و اقترب منه ببطء و همس في أذنه هذه الكلمات : " لقد فتحت عينيها يا سيّدي و نظرت حول مضجعها فلم ترك ثم نادتك بلجاجة فجئت لأدعوك إليها " .

فقام ناثان و مشى مسرعاً والعبد يتبعه . و لما بلغ صرحه دخل حجرة العليلة و انحنى فوق سريرها آخذاً يدها النحيلة بين يديه مقبّلاً شفتيها مراراً كأنه يريد أن ينفخ في جسدها السقيم حياة جديدة من حياته ، فحوّلت نحوه وجهها الغارق بين المساند الحريريّة و فتحت أجفانها قليلاً ، و ظهر على شفتيها خيال ابتسامة هي بقيّة الحياة في جسدها اللطيف ، هي آخر أشعة من نفسها المودّعة – هي صدى نداء القلب المتسارع نحو الوقوف . ثمّ قالت و مقاطع صوتها تشابه أنفاس طفل الفقيرة الجائع : " لقد نادتني الآلهة يا عريس نفسي ، وجاء الموت ليفصلني عنك ، فلا تجزع لأن مشيئة الآلهة مقدّسة و مطالب الموت عادلة . أنا ذاهبة الآن و كأسا الحبّ و الشبيبة ما برحتا طافحتين في أيدينا ، و مسالك الحياة الجميلة مازالت منبسطة أمامنا . أنا راحلة يا حبيبي إلى مسارح الأرواح و سوف أعود إلى هذا العالم لأنّ عشتروت العظيمة ترجع إلى هذه الحياة أرواح المحبّين الذين ذهبوا إلى الأبدية قبل أن يتمتـّعوا بملذّات الحبّ و غبطة الشبيبة . سوف نلتقي يا ناثان و نشرب معاً ندى الصباح من كؤوس النرجس ونفرح مع عصافير الحقل بأشعّة الشمس . إلى اللقاء يا حبيبي !" .

و انخفض صوتها و بقيت شفتاها ترتجفان مثل زهرة أقاح ذابلة أمام نسيمات الفجر ، فضمّها حبيبها و بلل عنقها بالعبرات ، ولما قرّب شفتيه من ثغرها وجده بارداً كالثلج و فصرخ صراخاً هائلاً و مزّق ثوبه و ارتمى على جثّتها الهامدة و روحه المتوّجعة تراوح بين لجج الحياة و هاوية الموت .

في هدوء ذلك الليل ارتجفت أجفان الراقدين و جزعت نساء الحي و ذعرت أرواح الأطفال إذ تبطّنت ملابس الدجى بنواح موجع و بكاء مرّ و عويل أليم متصاعد من جوانب قصر كاهن عشتروت .

و لما جاء الصباح طلب القوم ناثان ليعزّوه في مصيبته فلم يجدوه .

و بعد أيّام جاءت قافلة من المشرق أخبر زعيمها أنّه رأى ناثان تائهاً في البريّة البعيدة مع أسراب الغزلان .

مرّت الأجيال ساحقة بأقدامها الخفيّة أعمال الأجيال ، و بعدت الآلهة عن البلاد و حلّ مكانها آلهة غضوب يلذ ّ لها الهدم و يبهجها التخريب ، فدُكـّت هياكل مدينة الشـمس الفخمة وتقوّضت قصورها الجميلة و يبـست حدائقها النضرة ، و أجدبت حقولها الخصبة ، و لم يبق في تلك البقعة غير طللٍ بالٍ يعيد للذاكرة أشباح الأمس فيؤلمها ، و يرجع للنفس صدى تهاليل النجد القديم فيحزنها .

و لكن الأجيال التي تمرّ و تسحق أعمال الإنسان لا تفني أحلامه ، و لا تضعف عواطفه .

فالأحلام و العواطف تبقى ببقاء الروح الكلّي الخالد ، وقد تتوارى حيناً وتهجع آونة متشبّهة بالشمس عند مجيء الليل و بالقمر عند مجيء الصباح





من كتاب " عرائس المروج " ل جبران خليل جبران



يتبع ..... 2 & 3




------------
*مدينة الشمس: هي بعلبك مدينة بعل إله الشمس ، و قد دعاها الأقدمون مدينة الشمس (هليوبوليس) لأنها بنيت لعبادة هذا الإله ، و قد اتفق المؤرخون على أنها كانت أجمل مدينة في سوريا . أما الخرائب الباقية إلى يومنا هذا فأكثرها من بناء الرومانيين بعد فتحهم سوريا.
*عشتروت : هي ربة عظيمة عند قدماء الفينيقيين عبدوها في صور و صيدا و جبيل و بعلبك ، و بعض صفاتها قولهم : " موقدة شعلة الحياة و حارسة الشبيبة " و قد اخذ اليونان عبادتها من الفينيقيين و دعوها أفروديت ربة الحب و الجمال ، و الرومان يدعواها فينيس .
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
اشراقات

اشراقات



رماد الأجيال ... و النار الخالدة Empty
مُساهمةموضوع: رد: رماد الأجيال ... و النار الخالدة   رماد الأجيال ... و النار الخالدة I_icon_minitimeالأربعاء 6 مايو 2009 - 3:49

التتمة

2


( في ربيع سنة 1890 )


توارى النهار و اضمحلّ النور و لمّت الشمس وشاحها عن سهول بعلبك ، فعاد عليّ الحسيني* أمام قطيعه نحو خرائب الهيكل ، و هناك جلس بين الأعمدة الساقطة كأنها أضلع جنديّ متروك مزّقتها الهيجاء و جرّدتها العناصر ، فربضت أغنامه حوله مستأمنة بأنغام شبّابته .

انتصف الليل , وألقت السماء بذور الغد في أعماق ظلمته ، فتعبت أجفان عليّ من أشباح اليقظة و كلّت عاقلته من مرور مواكب الأخيلة السائرة بسكينة مخيفة بين الجدران المهدومة ، فاتّكأ على زنده ، و اقترب النعاس ولامس حواسه بأطراف ثنايا نقابه مثلما يلامس الضباب اللطيف وجه البحيرة الهادئة ، فنسي ذاته المقتبسة والتقى بذاته المعنويّة الخفيّة المفعمة بالأحلام المترفّعة عن شرائع الإنسان و تعاليمه ، واتسعت دوائر الرؤيا أمام عينيه ، و انبسطت له خفايا الأسرار ، فانفردت نفسه عن موكب الزمن المتسارع نحو اللاشيء ووقفت وحدها أمام الأفكار المتناسقة و الخواطر المتسابقة ، و لأوّل مرة في حياته عرف أو كاد يعرف أسباب المجاعة الروحيّة الملاحقة شبيبته . تلك المجاعة التي توحّد بين حلاوة الحياة و مرارتها . ذلك الظمأ الجامع بين تأوّه الحنين و سكينة الاستكفاء . ذلك الشوق الذي لا تزيله أمجاد العالم و لا تثنيه مجاري العمر . لأوّل مرّة في حياته شعر عليّ الحسيني بعاطفة غريبة أيقظتها خرائب الهيكل . عاطفة رقيقة هي الذكرى بمنزلة البخور من المجامر . عاطفة سحريّة قد انعكفت على حواسه انعكاف أنامل الموسيقيّ على صفوف الأوتار . عاطفة جديدة قد انبثقت من اللاشيء ، أو من كلّ شيء ، و نمت و تدرّجت حتى عانقت كلّيته المعنويّة و ملأت نفسه بشغف مدنف بلطفه و توجّع مستعذب بمرارته مستطيب بقساوته . عاطفة تولّدت من خلايا دقيقة واحدة مفعمة بالنعاس ، ومن دقيقة واحدة تتولد رسوم الأجيال مثلما تتناسل الأمم من نطفة واحدة .

نظر عليّ نحو الهيكل المهدوم وقد تبدّل النعاس بيقظة روحيّة فهرت بقايا المذبح المخدّشة و اتضحت أماكن الأعمدة المرتمية و أسـس الجدران المتداعية فجمدت عيناه و خفق قلبه ، و مثل ضرير عاد النور إلى عينيه فجأة فصار يرى و يفكّر و يتأمّل- يفكّر ويتأمّل- ومن تموّجات التأمّل تولّت في نفسه أشباح الذكرى فتذكّر – تذكّر تلك الأعمدة منتصبة بفخر و عظمة . تذكّر المسارج و المباخر الفضيّة محيطة بتمثال معبودةٍ مهابة . تذكّر الكهّان الوقورين يقدّمون الضحايا أمام مذبح مصفح بالعاج و الذهب . تذكّر الصبايا الضاربات الدفوف و الفتيان المترنّمين بمدائح ربّة الحبّ و الجمال . تذكّر و رأى هذه الصور متضحة لبصيرته المتكهربة وشعر بتأثيرات غوامضها تحرّك سواكن أعماقه . و لكن الذكرى لا تعيد غير أشباح الأجسام التي نراها فيما غبرنا من أعمارنا ولا يرجع إلى مسامعنا إلا صدى الأصوات التي ودّعتها آذاننا . فأيّة علاقة بين هذه التذكارات السحريّة و ماضي حياة فتى ولد بين المضارب و صرف ربيع عمره يرعى قطيعاً من الغنم في البريّة؟
قام عليّ و مشى بين الحجارة المتقوّضة و تذكاراته البعيدة تزيح أغشية النسيان عن مخيّلته مثلما تزيل الصبيّة نسيج العنكبوت عن بلّور مرآتها . حتى إذا ما بلغ صدر الهيكل وقف كأنّ في الأرض جاذباً يتمسك بقدميه ، فنظر و إذا به أمام تمثال مهشّم ملقى على الحضيض ، فركع بجانبه على غير هدى وعواطفه تتدفّق في أحشائه مثلما يتسارع
نزيف الدماء من جوانب الكلوم البليغة ، و نبضات قلبه تتكاثر و تتهامل مثل أمواج البحر المتصاعدة المنخفضة فخشع بصره و تأوّه بمرارة و بكى بكاءً أليماً لأنه شعر بوحدة جارحة و بعاد متلف فاصل بين روحه و روح ٍ جميلةٍ كانت بقربه قبل مجيئه إلى هذه الحياة .

شـعر بأن جوهر نفسـه لم يكن غير شطر من شـعلة متّقدة فصلها الله عن ذاته قبيل انقضاء الدّهر .


شـعر بحفيف أجنحة لطيفة ترفرف بين أضلعه الملتهبة و حـول لفائف دماغـه المنحلّة .


شعر بالحبّ القوي العظيم يشمل قلبه و يمتلك أنفاسه ، ذلك الحبّ الذي يبيح مكنونات النفس للنفس و يفصل بتفاعيله بين العقل و عالم المقاييس و الكمّية ، ذلك الحبّ الذي تسمعه متكلّماً عندما تخرس ألسنة الحياة و نراه منتصباً كعمود النور عندما تحجب الظلمة كلّ الأشياء . ذلك الحبّ ، ذلك الإله قد هبط في تلك الساعة الهادئة على نفس عليّ الحسيني و أيقظ فيها عواطف حلوة و مرّة مثلما تستنبت الشمس الزهور بجانب الأشواك .

ولكن ما هذا الحبّ ، و من أين أتى ، و ماذا يريد من فتىً رابض ٍ مع قطيعه بين تلك الهياكل الرميمة ؟ و ما هذه الخمرة السائلة في كبد لم تحرّكها قط لواحظ الصبايا ؟ و ما هذه الأغنية السماويّة المتموّجة في مسامع بدوي لم يطربه بعد شدو النساء ؟

ما هذا الحبّ ، و من أين أتى ، و ماذا يريد من عليّ المشـغول عن العالم بأغنامه و شــبّابته ؟ هل هي نواة ألقتها محاسن بدويّة بين أعشار قلبه على غير معرفة من حواسـه ، أم هو شعاع كان محتجباً بالضباب و قد ظهر الآن لينير خلايا نفسه ؟ هل هو حلمٌ سعى في سكينة الليل ليسخر بعواطفه ، أم هي حقيقة كانت منذ الأزل و ستبقى إلى آخر الدهــر ؟؟

أغمض عليّ أجفانه المغلفة بالدموع و مدّ يديه كالمتسوّل المستعطف و ارتعشت روحه في داخله و من ارتعاشاتها المتواصلة انبثقت الزفرات المتقطّعة المؤلفة بين تذلـّـل الشكوى و حرقة الشوق ، و بصوت لا يميّـزه عن التنهّد غير رنّات الألفاظ الضعيفة هتف قائلاً :
" من أنت أيّــتها القريبة من قلبي ، البعيدة عن ناظري ، الفاصلة بيني و بيني ، الموثقة حاضري بأزمنة بعيدة منسيّة ، أطيف حوريّة جاءت من عالم الخلود لتبيّن لي بُطل الحياة و ضعف البشر ، أم روح مليكة الجان تصاعدت من شقوق الأرض لتسترق منّي عاقلتي و تجعلني سخرية بين فتيان عشيرتي ؟ من أنت و ما هذا الفتون المميت المحيي القابض على قلبي ؟ و ما هذه المشاعر المالئة جوانحي نوراً و ناراً ؟ و من أنا و ما هذه الذات الجديدة التي أدعوها (أنا) و هي غريبة عني ؟ هل تجرّعْت ماء الحياة مع دقائق الأثير فصرت ملاكاً أرى و أسمع خفايا الأسرار ، أم هي خمر وساوس سكرت بها فتعاميت عن حقائق المعقولات ؟ " .

و سكت دقيقة و قد نمت عواطفه و تسامت روحه فقال : " يا من تبينها النفس و تدنيها و يحجبها الليل و يقصيها _ أيتها الروح الجميلة الحائمة في فضاء أحلامي ,قد أيقظت في باطني عواطف كانت نائمة مثل بذور الزهور المختبئة تحت أطباق الثلج ، و مررت كالنسيم الحامل أنفاس الحقول و لامست حواسي فاهتزّت و اضطربت كأوراق الأشجار ! دعيني أراكِ إن كنت لابسة من المادة ثوباً . أو مري النوم أن يغمض أجفاني فأراكِ بالمنام إن كنت معتوقة من التراب . دعيني ألمسكِ . أسمعيني صوتكِ . مزّقي هذا النقاب الحاجب كلّيتي و اهدمي هذا البناء الساتر ألوهيّتي و هبيني جناحاً فأطير وراءكِ إلى مسارح الملأ الأعلى إن كنتِ من سكانها أو لامسي عيني بالسحر فأتبعك إلى مكامن الجان إن كنت من عرائسها . ضعي يدكِ الخفيّة على قلبي و امتلكيني إن كنت حريّـا باتـّباعك " .


كان عليّ يهمس في آذان الدجى كلماته المتناسخة عن صدى نغمة متمايلة في أعماق صدره و بين ناظره و محيطه تنسل أشباح الليل كأنـّها أبخرة متولدة من مدامعه السخينة ، و على جدران الهياكل تتمـثــّـل له صور سحريّة بألوان قوس قزح .


كذا مرّت ساعة و هو فرح بدموعه ، مغتبط بلوعته ، سامع نبضات قلبه ، ناظر إلى ما وراء الأشياء كأنـّه يرى رسوم هذه الحياة تضمحلّ ببطء و يحلّ مكانها حلم غريب بمحاسنه هائل بهواجسه ، و مثل نبيّ يتأمّـل نجوم السماء مترقـّباً هبوط الوحي صار ينتظر مآتي الدقائق و تنهيداته المسرعة توقف أنفاسه الهادئة ، و نفسه تتركه و تسبح حوله ثمّ تعود إليه كأنـّها تبحث بين تلك الخرائب عن ضائع عزيز .

لاح الفجر و ارتجفت السكينة لمرور نسيماته و سال النور البنفسجي بين دقائق الأثير ، و ابتسم الفضاء ابتسامة نائح لاح له في الحلم طيف حبيبته ، فظهرت العصافير من شقوق جدران الخرائب ، و صارت تنتقـل بين تلك الأعمدة و تترنـّم و تتناجى متنبـّـئة بمآتي النهار ، فانتصب عليّ واضعاً يده على جبهته الملتهبة و نظر حوله بطرف جامد ، و مثل آدم عندما فتحت عينيه نفخة الله صار ينظر مستغرباً كلّ ما يراه . ثمّ اقترب من نعاجه و ناداها فقامت و انتفضت و مشت وراءه بهدوء نحو المروج الخضراء . سار عليّ أمام قطيعه و عيناه الكبيرتان محدّقتان إلى الفضاء الصافي و عواطفه المنصرفة عن المحسوسات تبيّن له غوامض الوجود و مستتراته و تريه ما غبر من الأجيال و مابقي منها بلمحةٍ واحدة ، و بلمحةٍ واحدةٍ تنسيه كلّ ذلك و تعيد إليه الشوق و الحنين ، فيجد ذاته منحجباً عن روحه انحجاب العين عن النور ، فيتنهّـد و مع كل تنهيدة تنسلخ شعلة من فؤاده المتقد .

بلغ الجدول المذيع بخريره سرائر الحقول فجلس على ضفته تحت أغصان الصفصاف المتدلية إلى المياه كأنـّها تروم امتصاص عذوبتها ، و انثنت نعاجه ترتعي الأعشاب و ندى الصباح يتلـمّـع على بياض صوفها . و لم تمرّ دقيقة حتى شعر بتسارع نبضات قلبه و تضاعف اهتزازات روحه ، و مثل راقد أجفلته أشعة الشمس تحرّك و تلـفـّت حوله فرأى صبيّـة قد ظهرت من بين الأشجار تحمل جرّة على كتفها و تتقـدّم على مهل نحو الغدير و قد بلـّـل الـنـّدى قدميها العاريتين .



يتبع 3


____________________________________

* الحسينيون: قبيلة من العرب تسكن الخيام في سهول بعلبك في أيامنا هذه
.


عدل سابقا من قبل اشراقات في الأربعاء 6 مايو 2009 - 3:57 عدل 1 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
اشراقات

اشراقات



رماد الأجيال ... و النار الخالدة Empty
مُساهمةموضوع: رد: رماد الأجيال ... و النار الخالدة   رماد الأجيال ... و النار الخالدة I_icon_minitimeالأربعاء 6 مايو 2009 - 3:54

3




لمّـا بلغت حافة الجدول و انحنت لتملأ جرّتـها التفتت نحو الحافة المقابلة فالتقت عيناها بعيني علي فشهقت و رمت بالجرّة ثمّ تراجعت قليلاً إلى الوراء و شخصت به شخوص ضائع وجد من يعرفه . . . مرّت دقيقة كانت ثوانيها مثل مصابيح تهدي قلبيهما إلى قلبيهما مبتدعة من السكينة أنغاماً غريبة تعيد إلى نفسيهما صدى تذكاراتٍ مبهمةٍ و تبـيّـن الواحد منهما للآخر في غير ذلك المكان محاطاً بصور و أشباح بعيدة عن ذلك الجدول و تلك الأشجار ، فكان كلّ منهما ينظر إلى الآخر نظرة استعطاف و يتفرّس فيه مستلطفاً ملامحه مصغياً لتنهداته بكلّ ما في عواطفه من المسامع ، مناجياً إيّـاه بكلّ ما في نفسه من الألسنة ، حتى إذا ما تمّ التفاهم و تكامل التعارف بين الروحين عبر عليّ الجدول مجذوباً بقوةٍ خفيّـةٍ و اقترب من الصبيـّـة و عانقها و قبـّـل شفتيها و قبـّـل عنقها و قبـّـل عينيها فلم تبدِ حراكاً بين ذراعيه كأنّ لذة العناق قد انتزعت منها إرادتها ، ورقــّـة الملامسة قد أخذت منها قواها ، فاستسلمت استسلام أنفاس الياسمين لتموّجات الهواء ، و ألقت رأسها على صدره كمتعبٍ وجد راحة . و تنهدت تنهدة عميقة تشير إلى حدوث انبساط في فؤاد منقبض و تعلن ثورات جوانح كانت راقدة فأفاقت ، ثمّ رفعت راسها و نظرت إلى عينيه نظرة من يستصغر الكلام المتعارف بين البشر بجانب السكينة - لغة الأرواح – نظرة من لا يرضى بأن يكون الحبّ روحاً في أجساد من الألفاظ .

مشى الحبيبان بين أشجار الصفصاف و وحدانـيّة كليهما لسان ناطق بتوحيدهما ، و مسمع منصت لوحي المحبة ، و عين مبصرة مجد السعادة . تتبعهما الخراف مرتعية رؤوس الأعشاب و الزهور ، و تقابلهما العصافير من كلّ ناحيةٍ مرتـّـلة ً أغاني السحر!

و لما بلغا طرف الوادي ، و كانت الشمس قد طلعت و ألقت على تلك الروابي رداءً مذهباً ، جلسا بقرب صخرةٍ يحتمي البنفسج بظلـّها . و بعد هنيهة نظرت الصبيـّة في سواد عيني علي و قد تلاعب النسيم بشعرها كأنّ النسيم شفاه خفية تروم تقبيلها ، و شعرت بأنامل سحريّـة تداعب لسانها و شفتيها رغم إرادتها ، فقالت و في صوتها حلاوة جارحة :
" قد أعادت عشتروت روحينا إلى هذه الحياة كيلا نحرم ملذات الحبّ ، و مجد الشبيبة يا حـبيبي ! "

فأغمض عليّ أجفانه و قد استحضرت موسيقى كلماتها رسوم حلم طالما رآه في نومه ، و شعر بأجنحةٍ غير منظورةٍ قد حملته من ذلك المكان و اوقفته في حجرةٍ غريبةِ الشكل بجانب سرير ملقى عليه جثمان امرأةٍ جميلةٍ أخذ الموت بهاءها و حرارة شفتيها ، فصرخ ملتاعاً من هول المشهد ثمّ فتح أجفانه فوجد تلك الصبيّـة جالسة بجانبه و على شفتيها ابتسامة محبّـة و في لحظها أشعة الحياة ، فاشرق وجهه و انتعشت روحه و تضعضعت أخيلة رؤياه و نسي الماضي و مآتيه . .
.

تعانق الحبيبان و شربا من خمرة القبل حتى سكرا و نام كلّ منهما ملتفـّـاً بذراعي الآخر إلى أن مال الظلّ و أيقظتهما حرارة الشمس .







بكل المحبة .... انتهت
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
المدير العام
المدير العام
المدير العام
المدير العام



رماد الأجيال ... و النار الخالدة Empty
مُساهمةموضوع: رد: رماد الأجيال ... و النار الخالدة   رماد الأجيال ... و النار الخالدة I_icon_minitimeالأربعاء 6 مايو 2009 - 5:05

قصة طويلة لكنها جميل جدا
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
رماد الأجيال ... و النار الخالدة
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
 :: المنتديات الأدبية :: منتدى القصص والروايات-
انتقل الى: